RSS

Monthly Archives: سبتمبر 2019

كان ذلك هو المدى الذي فارقتك فيه..

صغيري العزيز،،

في الليلة السابقة لحدوث النزيف المشؤوم، كنت أتحدث إلى والدك وأستحث الأسئلة والإجابات في حديثي المتلاحق معه وكأن الوقت كان يُدركُنا: هل فكرت ماذا نسمي صغيرنا؟ ماذا تشعر؟ هل سيكون صبيًّا أم صبية؟

قلت: أشعر أنه ولد وليس ابنة، لا أعرف لماذا أشعر بذلك ولكني حين أفكر به وأتخيل حياتي معه أراه ابنا وليس ابنة..

وتابعت ثرثرتي مع والدك: إني مرتبطة كثيرا بهذا الدعاء “ربي لاتذرني فردًا وأنت خير الوارثين” وأظن أنني سأسميه “الوارث” امتنانا لكرم الله الدائم معي.. ثم حدثت نفسي: رغم كوني لا أستحق هذا الكرم في أحيان كثيرة.. بل لم أستحقه أبدا…

لم يكن والدك يبالي إن كنت صبيا أم صبية، الوارث أم شخصا آخر.. كان جُل تفكيره في صحتي وصحتك.. ينهض صباحا ليعد لي عصير البرتقال بنفسه حتى أتناوله مع أقراص الحديد؛ ويعيد هذا الروتين مساء قبل النوم، ويعد لي سلطة الفواكه حتى أتناولها خلال نهاري ف العمل، وفي كل مرة كنت أعيدها إلى الثلاجة تماما كما كان قد جهزها لي.. ومرارا يصاب والدك بالإحباط مني… ومن سلوكي الذي لا يستقيم.

يقول لي: أتمنى ألا يكون ابننا عنيدا ومزاجيا مثلك!

وأقول: بس سيكون نسخة مني في كل شيء، ستكون ملامحه الرقيقة بدوية الطراز، وستأسرك عيناه وظلال رمشه كما فعلت بك أمه، وستلمس صدقه وحلاوة مشاعره في عينيه اللامعتين الجميلتين، وستصاب بالضجر مرارًا من عناده وإصراره لتحقيق ما يريد، وسيزعجك بالتفاصيل الكثيرة التي يعبّىء بها خططه اليومية لتحقيق أحلامه، وستُدهش من حجم اجتهاده لينال مراده، وستغفر له بمحبة ولُطف حين يكرر أخطاءه واعتذاراته، وستغمره بكرمك ومحبتك دوما كما تفعل مع أمه.

هل ستكون كذلك فعلا؟ أم هذا تسجيل لأمنياتي التي أريد أن أراك بها يا صغيري؟

كنت دائما أردد مع والدك: سيكون ابني في غاية الصحة، غاية العافية، غاية الذكاء، وغاية الجمال.

يقول لي والدك: عليك أن تؤمني بالله ولا ترفعي توقعاتك كثيرا حتى لا تصابي بخيبة الأمل في حال لم يتحقق “بعض ذلك”.. وانفجر غاضبة وأقول: لأني أريد كثيرا يعطيني ربي كثيرا، يغمرني بما أريد دون أن أحتسب، وليس ذلك على الله بكثير! وأنا أتفاءل بالخير الكثير لأجده! ثم أهاجمه: ولستُ مثلك..!

كم كان والدك يفقدني صوابي بمثل هذا الحديث…

حسنًا،، في الساعة ٣ من فجر العاشر من سبتمبر من العام ٢٠١٩م فقدتك ياصغيري وعمرك يكاد يتجاوز الشهرين والنصف بأيام معدودة..

كيف جسرتُ على رفضك؟ ونبذتك من رحمي؟ وأنا التي أحطتك بكل تلك الأنسجة لأحميك وأحافظ عليك دافئا وآمنا بداخلي! لاتعلم كم يزعجني ذلك!

خلال تلك الساعات المؤلمة لم أكن لأتوقع ما مررت به، حتى صدمت بكل تلك المراحل المُعقدة التي تعانيها الأم والطفل من أجل الحياة! وأنا أسمع الصراخ المتكرر للأمهات في غرف الولادة المجاورة، كان بكائي يزداد والألم يعتصر منطقة أسفل بطني حتى ظننتي سأموت،، جعلني ذلك أفرغ كل ما في رحمي قبل الساعة ١١ من صباح ذلك اليوم.. وكان هذا المدى الذي ودعتك فيه ثم فقدت إحساسي بالألم…

لا أعلم هل كنت صابرة ومحتسبة وأنا أنظر في عيني زوجي الباكيتين، أم كنت منافقة وأنا أحاول أن ابتسم وأمزح مع إخوتي وأخواتي وهم يحيطون بي يملؤهم الحزن والقلق مما ألمّ بي… ماذا كنت أرفض خلال تلك اللحظات؟ شعوري بالضعف؟ بالحزن؟ بالفقدان الأبدي؟ بالحرمان؟ بماذا يا رحمة!

لقد فقدت شعوري الصادق في تلك اللحظة.. كنت في غاية الغياب..

لقد كانت الممرضة الفلبينية التي اعتنت بي في صالة الولادة بطواريء المستشفى السلطاني في غاية اللطف.. بعد أن تأكدت من نتائج المسح الصوتي أمسكت بيدي وقالت: أنا آسفة لم يعد هناك جنين بداخلك،، يبدو أنه سقط مع الدماء النازفة.. أجهشت بالبكاء ولم أتمكن من السيطرة على نفسي.. بكيت كثيرا .. أخبرتني أنه لم يكن يكبر منذ أسابيع، كان قد توقف عن النمو، و هاقد قرر عدم التعلق بجدار رحمي… تذكرت الطبيبة العجوز التي قالت لي الكلام نفسه في أحد المستشفيات الخاصة قبل أسابيع “الجنين حجمه صغير ولا يمكننا رصد أي نبض له الآن..” ابتلعت سؤالي ولم أتمكن أن أنطق به “هل هو على قيد الحياة..؟” وبدأت أقاوم دمع عيني حين نظرت لي وقالت: لاتقلقي هذا أمر شائع، سنتابع نبضه بعد أسبوع..”

في غمرة تلك الأفكار قاطعتني الممرضة الفلبينية: سأنادي زوجك ويمكنك التحدث إليه ..قلت في نفسي: كيف أتحدث إليه وقد فقدت صغيرنا بهذه السهولة؟! كيف أنظر في عينيه وأنا في غاية الهزيمة! ألا يجب أن أبتلع بعضا منها أولا…؟

لقد مر ذلك الصباح بسوئه.. لقد مر بعد انتزع طفلي، وترك روحي مكسورة، وترك جسدي ضعيفا وجافا.. لكن ذلك لم يمنعني أن أبتسم للممرضة الهندية التي حقنتني بإبرة اختلاف فصيلة الدم (RH)، وقالت: هذا سيجعل حملك القادم أقل خطرا، وذهبت..

هل جئت يا ولدي لتُسهل عليّ رحلتي وتشق الطريق لإخوتك من بعدك؟

لا أعلم إن كان هذا يخفف حزني أم يزيده..

ليتك تعلم أي عاطفة خلقت بداخلي وذهبت….

١١ سبتمبر ٢٠١٩م

 
التعليقات على كان ذلك هو المدى الذي فارقتك فيه.. مغلقة

Posted by في 12 سبتمبر 2019 بوصة Uncategorized